العرش
ورد ذكر العرش في الآيات القرآنية وفي كثير من الأدعية والروايات عن المعصومين(عليهم السلام)، والذي نختلف فيه عمّا يقوله الوهابيون، أنّهم يصوّرون العرش بالمعنى الظاهري، أي: كرسي كبير له أربعة قوائم مثلاً، وهكذا ويصوّرون أنّ الله جالس عليه، ونحن لا نقول بذلك، لأنّه يستلزم الكثير من المحاذر، منها: أنّ كلامهم سيستلزم الجسمية والمحدودية والمكان والحدوث، وما إلى ذلك. وما نقوله نحن في العرش تبعاً لأهل البيت(عليهم السلام): انّه هو العلم. فعن حنان، قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن العرش والكرسي؟ فقال(عليه السلام): (إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وصنع في القرآن صفه على حدة، فقوله: ربّ العرش العظيم يقول: ربّ الملك العظيم، وقوله الرحمن على العرش استوى، يقول على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثمّ العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعاً غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لأنّ الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع، ومنه الأشياء كلّها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحدّ والمشيه، وصفة الإرادة، وعلم الألفاظ، والحركات، والترك وعلم العود والبدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلم الغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال ربّ العرش العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسي... فعلى هذا فالعرش هو العلم الذي لا يقدر قدره أحد)(انظر تفسير الميزان). وتكون الرواية التي فيها مكتوب على ساق العرش الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، جاءت على الرمز، ويجب أن نفهمها على ضوء ما تقدم من معنى العرش والكرسي، فلا تكون (ساق العرش) قد جاءت على الحقيقة، ولا لفظة (مكتوب) قد جاء على الحقيقة أيضاً، وإنّما إذا كان العرش هو العلم فإنّ من ضمن هذا العلم الغيبي الإلهي أنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، وعبّر عن هذه الضمنية بأنّه مكتوب على ساق العرش والله اعلم


تفسير الميزان ج 8

(بحث روائي)

لم ينقل عن طبقة الصحابة بحث حقيقي عن مثل العرش والكرسي وسائر الحقائق القرآنية وحتى أصول المعارف كمسائل التوحيد وما يلحق بها بل كانوا لا يتعدون الظواهر الدينية ويقفون عليها، وعلى ذلك جرى التابعون وقدماء المفسرين حتى نقل عن سفيان بن عيينة أنه قال: كلما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه، وعن الامام مالك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الله استوى على العرش، كيف استوى؟ قال الراوي فما رأيت مالكا وجد من شئ كموجدته من مقالته وعلاه الرحضاء يعني العرق وأطرق القوم. قال فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول: والاستواء منه غير مجهول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالا، وأمر به فاخرج. وكأن قوله: الكيف غير معقول الخ، مأخوذ عما روي (1) عن أم سلمة أم المؤمنين في قوله تعالى: " الرحمان على العرش استوى " قالت: الكيف غير معقول، والاستواء (1) رواه في الدر المنثور عن ابن مردويه واللالكائي في السنة عنها.

(١٦١)

غير مجهول، والاقرار به إيمان، والجحود به كفر. فهذا نحو سلوكهم في ذلك لم يورث منهم شئ إلا ما يوجد في كلام الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده بعده عليهم السلام ونحن نورد بعض ما عثرنا عليه في كلامهم. ففي التوحيد بإسناده عن سلمان الفارسي فيما أجاب به علي عليه السلام الجاثليق: فقال علي عليه السلام: إن الملائكة تحمل العرش، وليس العرش كما تظن كهيئة السرير ولكنه شئ محدود مخلوق مدبر وربك مالكه لا أنه عليه ككون الشئ على الشئ الخبر. وفي الكافي عن البرقي رفعه قال: سأل الجاثليق عليا عليه السلام فقال: أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أو العرش يحمله؟ فقال عليه السلام: الله عز وجل حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وذلك قول الله عز وجل: " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ". قال: فأخبرني عن قوله: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " فكيف ذاك وقلت: إنه يحمل العرش والسماوات والأرض؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن العرش خلقه الله تبارك وتعالى من أنوار أربعة: نور أحمر منه احمرت الحمرة، ونور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أبيض منه ابيض البياض. وهو العلم الذي حمله الله الحملة، وذلك نور من نور عظمته فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة بالاعمال المختلفة والأديان المتشتتة فكل شي ء محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا - ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكل شئ محمول، والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا، والمحيط بهما من شئ، وهو حياة كل شئ ونور كل شئ سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. قال له: فأخبرني عن الله أين هو؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هو هيهنا وهيهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا، وهو قوله: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، وذلك قوله: " وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ".

(١٦٢)

فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه، وليس يخرج من هذه الأربعة شئ خلقه الله في ملكوته، وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله فقال: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم، وبنوره اهتدوا إلى معرفته، الخبر. أقول: قوله أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أو العرش يحمله الخ، ظاهر في أن الجاثليق أخذ الحمل بمعنى حمل الجسم للجسم، وقوله عليه السلام: الله حامل العرش والسماوات والأرض الخ، أخذ للحمل بمعناه التحليلي وتفسير له بمعنى حمل وجود الشئ ء وهو قيام وجود الأشياء به تعالى قياما تبعيا محضا لا استقلاليا، ومن المعلوم أن لازم هذا المعنى أن يكون الأشياء محمولة له تعالى لا حاملة. ولذلك لما سمع الجاثليق ذلك سأله عليه السلام عن قوله تعالى: " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " فإن حمل وجود الشئ بالمعنى المتقدم يختص به تعالى لا يشاركه فيه غيره مع أن الآية تنسبه إلى غيره! ففسر عليه السلام الحمل ثانيا بحمل العلم وفسر العرش بالعلم. غير أن ذلك حيث كان يوهم المناقضة بين التفسيرين زاد عليه السلام في توضيح ما ذكره من كون العرش هو العلم أن هذا العلم غير ما هو المتبادر إلى الافهام العامية من العلم وهو العلم الحصولي الذي هو الصورة النفسانية بل هو نور عظمته وقدرته حضرت لهؤلاء الملة بإذن الله وشوهدت لهم فسمي ذلك حملا، وهو مع ذلك محمول له تعالى ولا منافاة كما أن وجود أفعالنا حاضرة عندنا محمولة لنا وهي مع ذلك حاضرة عند الله سبحانه محمولة له وهو المالك الذي ملكنا إياها. فنور العظمة الإلهية وقدرته الذي ظهر به جميع الأشياء هو العرش الذي يحيط بما دونه وهو ملكه تعالى لكل شئ دون العرش وهو تعالى الحامل لهذا النور ثم الذين كشف الله لهم عن هذا النور يحملونه بإذن الله والله سبحانه هو الحامل للحامل والمحمول جميعا. فالعرش في قوله: " ثم استوى على العرش " - وإن شئت قل: الاستواء على العرش هو الملك، وفي قوله: " ويحمل عرش ربك " الآية هو العلم، وهما جميعا واحد وهو المقام الذي يظهر به جميع الأشياء ويتمركز فيه إجمال جميع التدابير التفصيلية الجارية في نظام الوجود فهو مقام الملك الذي يصدر منه التدابير، ومقام العلم الذي

(١٦٣)

يظهر به الأشياء. وقوله عليه السلام: فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين " الخ " يريد أن هذا المقام هو المقام الذي ينشأ منه تدبير نظام السعادة الذي وقع فيه مجتمع المؤمنين وتسير عليه قافلتهم في مسيرهم إلى الله سبحانه، وينشأ منه نظام الشقاء الذي ينبسط على جميع المعاندين أعداء الله الجاهلين بمقام ربهم بل المقام الذي ينشأ منه النظام العالمي العام الذي يعيش تحته كل ذي وجود، ويسير به سائرهم للتقرب إليه بأعمالهم وسننهم سواء علموا بما هم فيه من ابتغاء الوسيلة إليه تعالى أو جهلوا. وقوله عليه السلام: " وهو حياة كل شئ ونور كل شئ " كالتعليل المبين لقوله قبله فكل شئ محمول يحمله الله إلى آخر ما قال. ومحصله أنه تعالى هو الذي به يوجد كل شئ وهو الذي يدرك كل شئ، فيظهر به طريقه الخاص به في مسير وجوده ظهور الطريق المظلم لسائره بواسطة النور فهي لا تملك لانفسها شيئا بل الله سبحانه هو المالك لها الحامل لوجودها. وقوله عليه السلام: هو هيهنا وهيهنا وفوق وتحت " الخ " يريد أن الله سبحانه لما كان مقوما الوجود كل شئ حافظا وحاملا له لم يكن محل من المحال خاليا عنه، ولا هو مختصا بمكان دون مكان، وكان معنى كونه في مكان أو مع شئ ذي مكان إنه تعالى حافظ له وحامل لوجوده ومحيط به، وهو وكذا غيره محفوظ بحفظه تعالى ومحمول ومحاط له. وهذا يؤل إلى علمه الفعلي بالأشياء، ونعني به أن كل شئ حاضر عنده تعالى غير محجوب عنه، ولذلك قال عليه السلام أولا: " فالكرسي محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى " فأشار إلى الإحاطة ثم عقبه بقوله: " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " فأشار إلى العلم فأنتج ذلك أن الكرسي ويعني به العرش مقام الإحاطة والتدبير والحفظ، وأنه مقام العلم والحضور بعينه، ثم طبقه على قوله تعالى: " وسع كرسيه السماوات والأرض " الآية. وقوله عليه السلام: " وليس يخرج عن هذه الأربعة شئ خلق الله في ملكوته " كإنه إشارة إلى الألوان الأربعة المذكورة في أول كلامه عليه السلام وسيجئ كلام فيها في أحاديث المعراج إن شاء الله.

(١٦٤)

وقوله عليه السلام " وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه " فالعرش هو الملكوت غير أن الملكوت اثنان ملكوت أعلى وملكوت أسفل، والعرش لكونه مقام الاجمال وباطن البابين من الغيب كما سيأتي ما يدل على ذلك من الرواية كان الأحرى به أن يكون الملكوت الاعلى. وقوله عليه السلام: وكيف يحمل حملة العرش الله " الخ " تأكيد وتثبيت لأول الكلام: أن العرش هو مقام حمل وجود الأشياء وتقويمه، فحملة العرش محمولون له سبحانه لا حاملون كيف؟ ووجودهم وسير وجودهم يقوم به تعالى لا بأنفسهم، ولاعتباره عليه السلام هذا المقام الوجودي علما عبر عن وجودهم وعن كمال وجودهم بالقلوب، ونور الاهتداء إلى معرفة الله إذ قال: وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته. وفي التوحيد بإسناده عن حنان بن سدير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العرش والكرسي فقال: إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله: " رب العرش العظيم " يقول: رب الملك العظيم، وقوله: " الرحمان على العرش استوى " يقول: على الملك احتوى، وهذا علم الكيفوفية في الأشياء. ثم العرش في الوصل مفرد (1) عن الكرسي لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب وهما جميعا غيبان، وهما في الغيب مقرونان لان الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلها، والعرش هو الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون والقدر والحد والأين والمشية وصفة الإرادة وعلم الألفاظ والحركات والترك وعلم العود والبدء. فهما في العلم بابان مقرونان لان ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: " رب العرش العظيم " أي صفته أعظم من صفة الكرسي، وهما في ذلك مقرونان. قلت: جعلت فداك فلم صار في الفضل جار الكرسي؟ قال عليه السلام: إنه صار جاره لان علم الكيفوفية فيه وفيه الظاهر من أبواب البداء وإنيتها وحد رتقها وفتقها فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلوا على صدق دعواهما لأنه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز. (1) متفرد خ ل.

(١٦٥)

أقول: قوله عليه السلام: إن للعرش صفات كثيرة الخ، يؤيد ما ذكرناه سابقا أن الاستواء على العرش لبيان اجتماع أزمة التدابير العالمية عند الله، ويؤيده ما في آخر الحديث من قوله: وبمثل صرف العلماء. وقوله عليه السلام: " وهذا علم الكيفوفية في الأشياء " المراد به العلم بالعلل العالية والأسباب القصوى للموجودات فإن لفظ " كيف " عرفا كما يسأل به عن العرض المسمى اصطلاحا بالكيف كذلك يسأل به عن سبب الشئ ولمه، يقال: كيف وجد كذا؟ وكيف فعل زيد كذا وهو لا يستطيع؟. وقوله عليه السلام: ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي " الخ " مراده أن العرش والكرسي واحد من حيث إنهما مقام الغيب الذي يظهر منه الأشياء وينزل منه إلى هذا العالم لكن العرش في الصلة الكلامية متميز من الكرسي لان هذا المقام في نفسه ينقسم إلى مقامين وينشعب إلى بابين لكنهما مقرونان غير متبائنين: أحدهما الباب الظاهر الذي يلي هذا العالم، والآخر الباب الباطن الذي يليه ثم بينه بقوله: لان الكرسي هو الباب الظاهر " الخ ". قوله عليه السلام: " لان الكرسي هو الباب الظاهر الذي منه مطلع البدع ومنها الأشياء كلها " أي طلوع الأمور البديعة على غير مثال سابق، ومنها يتحقق الأشياء كلها لان جميعها بديعة على غير مثال سابق، وهي إنما تكون بديعة إذا كانت مما لا يتوقع تحققها من الوضع السابق الذي كان أنتج الأمور السابقة على هذا الحادث التي تذهب هي ويقوم هذا مقامها فيؤل الامر إلى البداء بإمحاء حكم سبب وإثبات حكم الآخر موضعه فجميع الوقائع الحادثة في هذا العالم المستندة إلى عمل الأسباب المتزاحمة والقوى المتضادة بدع حادثة وبداءات في الإرادة. وفوق هذه الأسباب المتزاحمة والإرادات المتغائرة التي لا تزال تتنازع في الوجود سبب واحد وإرادة واحدة حاكمة لا يقع إلا ما يريده فهو الذي يحجب هذا السبب بذاك السبب ويغير حكم هذه الإرادة ويقيد إطلاق تأثير كل شئ بغيره كمثل الذي يريد قطع طريق لغاية كذا فيأخذ في طيه، وبينما هو يطوي الطريق يقف أحيانا ليستريح زمانا، فعلة الوقوف ربما تنازع علة الطي والحركة و توقفها عن العمل والإرادة تغير

(١٦٦)

الإرادة لكن هناك إرادة أخرى هي التي تحكم على الإرادتين جميعا وتنظم العمل على ما تميل إليه بتقديم هذه تارة وتلك أخرى والإرادتان أعني سببي الحركة والسكون وإن كانت كل منهما تعمل لنفسها وعلى حدتها وتنازع صاحبتها لكنهما جميعا متفقتان في طاعة الإرادة التي هي فوقهما، ومتعاضدتان في إجراء ما يوجبه السبب الذي هو أعلى منهما وأسمى. فالمقام الذي ينفصل به السببان المتنافيان وينشأ منه تنازعهما بمنزلة الكرسي، والمقام الذي يظهران فيه متلائمين متآلفين بمنزلة العرش، وظاهر أن الثاني أقدم من الأول وإنهما يختلفان بنوع من الاجمال والتفصيل، والبطون والظهور. وأحرى بالمقامين أن يسميا عرشا وكرسيا لان فيهما خواص عرش الملك وكرسيه فإن الكرسي الذي يظهر فيه أحكام الملك من جهة عماله وأيديه العمالة، وكل منهم يعمل بحيال نفسه في نوع من أمور المملكة وشؤونها وربما تنازعت الكراسي فيقدم حكم البعض على البعض ونسخ البعض حكم البعض، لكنها جميعا تتوافق وتتحد في طاعة أحكام العرش وهو المختص بالملك نفسه فعنده الحكم المحفوظ عن تنازع الأسباب غير المنسوخ بنسخ العمال والأيدي، وفي عرشه إجمال جميع التفاصيل وباطن ما يظهر من ناحية العمال والأيدي. وبهذا البيان يتضح معنى قوله عليه السلام: لان الكرسي هو الباب الظاهر " الخ " فقوله: " منه مطلع البدع " أي طلوع الأمور الكونية غير المسبوقة بمثل، وقوله: " ومنها الأشياء كلها " أي تفاصيل الخلقة ومفرداتها المختلفة المتشتتة. وقوله: " والعرش هو الباب الباطن " قبال كون الكرسي هو الباب الظاهر، والبطون والظهور فيهما باعتبار وقوع التفرق في الاحكام الصادرة وعدم وقوعه، وقوله يوجد فيه " الخ " أي جميع العلوم والصور التي تنتهي إلى إجمالها تفاصيل الأشياء. وقوله: " علم الكيف " كأن المراد بالكيف خصوصية صدور الشئ عن أسبابه، وقوله: " والكون " المراد به تمام وجوده كما أن المراد بالعود والبدء أول وجودات الأشياء ونهايتها وقوله: " القدر والحد " المراد بهما واحد غير أن القدر حال مقدار الشئ بحسب نفسه، والحد حال الشئ بحسب إضافته إلى غيره ومنعه أن يدخل حومة نفسه ويمازجه، وقوله: " والأين " هو النسبة المكانية، وقوله: " والمشية

(١٦٧)

وصفة الإرادة هما واحد ويمكن أن يكون المراد بالمشية أصلها وبصفة الإرادة خصوصيتها. وقوله: " وعلم الألفاظ والحركات والترك " علم الألفاظ هو العلم بكيفية انتشاء دلالة الألفاظ بارتباطها إلى الخارج بحسب الطبع فإن الدلالة الوضعية تنتهي بالآخرة إلى الطبع، وعلم الحركات والترك، العلم بالاعمال والتروك من حيث ارتباطها إلى الذوات ويمكن أن يكون المراد بمجموع قوله: " علم الألفاظ وعلم الحركات والترك " العلم بكيفية انتشاء اعتبارات الأوامر والنواهي من الافعال والتروك، وانتشاء اللغات من حقائقها المنتهية إلى منشأ واحد، والترك هو السكون النسبي في مقابل الحركات. وقوله: " لان علم الكيفوفية فيه " الضمير للعرش، وقوله: " وفيه الظاهر من أبواب البداء " الضمير للكرسي، والبداء ظهور سبب على سبب آخر وإبطاله أثره، وينطبق على جميع الأسباب المتغائرة الكونية من حيث تأثيرها. وقوله عليه السلام: " فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الصرف " المراد به على ما يؤيده البيان السابق أن العرش والكرسي جاران متناسبان بل حقيقة واحدة مختلفة بحسب مرتبتي الاجمال والتفصيل: وإنما نسب إلى أحدهما أنه حمل الآخر بحسب صرف الكلام وضرب المثل، وبالأمثال تبين المعارف الدقيقة الغامضة للعلماء. وقوله: " وليستدلوا على صدق دعواهما " أي دعوى العرش والكرسي أي وجعل هذا المثل ذريعة لان يستدل العلماء بذلك على صدق المعارف الحقة الملقاة إليهم في كيفية انتشاء التدبير الجاري في العالم من مقامي الاجمال والتفصيل والباطن والظاهر، فافهم ذلك. في التوحيد بإسناده عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قوله تعالى " وكان عرشه على الماء " الآية، فقال: ما يقولون؟ قيل: إن العرش كان على الماء والرب فوقه! فقال: كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوقين، ولزمه أن الشئ الذي يحمله هو أقوى منه. قال: إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن تكون سماء أو أرض أو جن أو إنس أو شمس أو قمر. أقول: وهو كسابقه في الدلالة على أن العرش هو العلم، والماء أصل الخلقة وكان العلم الفعلي متعلقا به قبل ظهور التفاصيل. وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام: أنه سئل عن بعد ما بين الأرض والعرش. فقال:

(١٦٨)

قول العبد مخلصا: لا إله إلا الله. أقول: وهو من لطائف كلامه عليه السلام أخذه من قوله تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". ووجهه أن العبد إذا نفى عن غيره تعالى الألوهية بإخلاص الألوهية والاستقلال له تعالى أوجب ذلك نسيان غيره، والتوجه إلى مقام استناد كل شئ إليه تعالى، وهذا هو مقام العرش على ما مر بيانه. ونظيره في اللطافة قوله عليه السلام قد سئل عن بعد ما بين الأرض والسماء: مد البصر ودعوة المظلوم. في الفقيه و المجالس العلل للصدوق: روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل لم سمي الكعبة كعبة؟ قال: لأنها مربعة فقيل له: ولم صارت مربعة؟ قال: لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع. فقيل له: ولم صار البيت المعمور مربعا؟ قال: لأنه بحذاء العرش وهو مربع، فقيل له: ولم صار العرش مربعا؟ قال: لان الكلمات التي بني عليها الاسلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. الحديث. أقول: وهذه الكلمات الأربع أولاها: تتضمن التنزيه والتقديس والثانية التشبيه والثناء، والثالثة التوحيد الجامع بين التنزيه والتشبيه، والرابعة: التوحيد الأعظم المختص بالاسلام، وهو أن الله سبحانه أكبر من أن يوصف فإن الوصف تقييد وتحديد وهو تعالى أجل من أن يحده حد ويقيده قيد وقد تقدم نبذه من الكلام فيه في تفسير قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " الآية. وبالجملة يرجع المعنى إلى تفسيره بالعلم على ما مر والروايات المختلفة في هذا المعنى كثيرة كما ورد أن آية الكرسي وآخر البقرة وسورة محمد من كنوز العرش وما ورد أن ص نهر يخرج من ساق العرش، وما ورد أن الأفق المبين قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد فيه من القدحان عدد النجوم. وفي تفسير القمي عن عبد الرحيم الأقصر عن الصادق عليه السلام قال: سألته عن " ن والقلم " قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها: الخلد، ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر، وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة

(١٦٩)

فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد، ولا ينطق أبدا فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها (الحديث). وسيجئ تمامه في سورة ن إن شاء الله تعالى. أقول: وفي معناها روايات أخر، وفي بعضها لما استزاد الراوي بيانا وأصر عليه قال عليه السلام: القلم ملك واللوح ملك، فبين بذلك أن ما وصفه تمثيل من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس لتفهيم الغرض. وفي كتاب روضة الواعظين عن الصادق عن أبيه عن جده عليه السلام قال: في العرش تمثال ما خلق الله في البر والبحر. قال: وهذا تأويل قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ". أقول: أي وجود صور الأشياء وتماثيلها في العرش هو الحقيقة التي يبتنى عليها بيان الآية، وقد تقدم توضيح معنى وجود صور الأشياء في العرش، وفي معنى هذه الرواية ما ورد في تفسير دعاء " يا من أظهر الجميل ". وفيه أيضا عن الصادق عن أبيه عن جده عليه السلام في حديث: وإن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام، والعرش يكسى كل يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة. أقول: والجملة الأخيرة مما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق الشيعة وأهل السنة، والذي ذكره عليه السلام بناء على ما تقدم تمثيل، ونظائره كثيرة في رواياتهم عليهم السلام. ومن الدليل عليه إن ما وصف في الرواية من عظم العرش بأي حساب فرض يوجد من الدوائر التي ترسمها الأشعة النورية ما هي أعظم منه بكثير فليس التوصيف إلا لتقريب المعقول من الحس. وفي العلل عن علل محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام: علة الطواف بالبيت أن الله تبارك وتعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فردوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب فعلموا أنهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله عز وجل أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء

(١٧٠)

الرابعة بيتا بحذاء العرش يسمى " الضراح " ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى " البيت المعمور " بحذاء الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فجرى في ولده إلى يوم القيامة الحديث. أقول: الحديث لا يخلو عن الغرابة من جهات، وكيف كان فبناء على تفسير العرش بالعلم يكون معنى لواذ الملائكة بالعرش هو اعترافهم بالجهل وإرجاع العلم إليه سبحانه حيث قالوا: " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " وقد مر الكلام في هذه القصة في أوائل سورة البقرة. وفي الرواية ذكر الضراح والبيت المعمور في السماء ومعظم الروايات تذكر في السماء بيتا واحدا وهو البيت المعمور في السماء الرابعة، وفيها إثبات الذنب للملائكة وهم معصومون بنص القرآن، ولعل المراد من العلم بالذنب العلم بنوع من القصور. وأما كون الكعبة بحذاء البيت المعمور فالظاهر أنه محاذاة معنوية لا حسية جسمانية، ومن الشاهد عليه قوله: " فوضع في السماء الرابعة بيتا بحذاء العرش " إذ المحصل من القرآن والحديث أن العرش والكرسي محيطان بالسماوات والأرض، ولا يتحقق معنى المحاذاة بين المحيط والمحاط إذا كانت الإحاطة جسمانية. وفي الخصال عن الصادق عليه السلام: أن حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم يسترزق الله لولد آدم. والثاني على صورة الديك يسترزق الله الطير، والثالث على صورة الأسد يسترزق الله للسباع، والرابع على صورة الثور يسترزق الله للبهائم، ونكس الثور رأسه منذ عبد بنو إسرائيل العجل فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية. الخبر. أقول: والاخبار فيما يقرب من هذا المعنى كثيرة متظافرة، وفي بعضها عد الأربع حملة للكرسي، وهو الخبر الوحيد الذي يذكر للكرسي حملة - فيما عثرنا عليه - وقد أوردناها في تفسير آية الكرسي في سورة البقرة. وفي حديث آخر: حملة العرش ثمانية أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين: فأما الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأما الأربعة من الآخرين: فمحمد وعلي والحسن والحسين عليهم السلام. أقول: بناء على تفسير العرش بالعلم لا ضير في أن تعد أربعة من الملائكة حملة

(١٧١)

له ثم تعد عدة من غيرهم حملة له. والروايات في العرش كثيرة متفرقة في الأبواب، وهي تؤيد ما مر من تفسيره بالعلم وما له ظهور ما في الجسمية منها، مفسرة بما تقدم وأما كون العرش جسما في هيئة السرير موضوعا على السماء السابعة فمما لا يدل عليه حديث يعبأ بأمره بل من الروايات ما يكذبه كالرواية الأولى المتقدمة.