رواية السقيفة
– حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ الأنْصَارَ اجْتَمَعُوا في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقُلتُ لأبِي بَكْرٍ: انْطَلِقْ بنَا فَجِئْنَاهُمْ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ.
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 2462 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَاتَ وأَبُو بَكْرٍ بالسُّنْحِ، -قَالَ إسْمَاعِيلُ: يَعْنِي بالعَالِيَةِ- فَقَامَ عُمَرُ يقولُ: واللَّهِ ما مَاتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَتْ: وقَالَ عُمَرُ: واللَّهِ ما كانَ يَقَعُ في نَفْسِي إلَّا ذَاكَ، ولَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أيْدِيَ رِجَالٍ وأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أبو بَكْرٍ فَكَشَفَ عن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أبَدًا، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أيُّها الحَالِفُ، علَى رِسْلِكَ، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أبو بَكْرٍ وأَثْنَى عليه، وقَالَ: ألا مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فإنَّ مُحَمَّدًا قدْ مَاتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فإنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ، قَالَ: واجْتَمعتِ الأنْصَارُ إلى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقالوا: مِنَّا أمِيرٌ ومِنكُم أمِيرٌ، فَذَهَبَ إليهِم أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، فَذَهَبَ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ فأسْكَتَهُ أبو بَكْرٍ، وكانَ عُمَرُ يقولُ: واللَّهِ ما أرَدْتُ بذلكَ إلَّا أنِّي قدْ هَيَّأْتُ كَلَامًا قدْ أعْجَبَنِي، خَشِيتُ ألَّا يَبْلُغَهُ أبو بَكْرٍ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ، فَتَكَلَّمَ أبْلَغَ النَّاسِ، فَقَالَ في كَلَامِهِ: نَحْنُ الأُمَرَاءُ وأَنْتُمُ الوُزَرَاءُ، فَقَالَ حُبَابُ بنُ المُنْذِرِ: لا واللَّهِ لا نَفْعَلُ، مِنَّا أمِيرٌ، ومِنكُم أمِيرٌ، فَقَالَ أبو بَكْرٍ: لَا، ولَكِنَّا الأُمَرَاءُ، وأَنْتُمُ الوُزَرَاءُ، هُمْ أوْسَطُ العَرَبِ دَارًا، وأَعْرَبُهُمْ أحْسَابًا، فَبَايِعُوا عُمَرَ، أوْ أبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أنْتَ؛ فأنْتَ سَيِّدُنَا، وخَيْرُنَا، وأَحَبُّنَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخَذَ عُمَرُ بيَدِهِ فَبَايَعَهُ، وبَايَعَهُ النَّاسُ، فَقَالَ قَائِلٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ. وقَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ القَاسِمِ، أخْبَرَنِي القَاسِمُ، أنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: شَخَصَ بَصَرُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: في الرَّفِيقِ الأعْلَى، ثَلَاثًا، وقَصَّ الحَدِيثَ. قَالَتْ: فَما كَانَتْ مِن خُطْبَتِهِما مِن خُطْبَةٍ إلَّا نَفَعَ اللَّهُ بهَا، لقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ، وإنَّ فيهم لَنِفَاقًا، فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بذلكَ، ثُمَّ لقَدْ بَصَّرَ أبو بَكْرٍ النَّاسَ الهُدَى، وعَرَّفَهُمُ الحَقَّ الذي عليهم، وخَرَجُوا به يَتْلُونَ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى {الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري الرقم: 3667 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] [قوله: وقال عبد الله بن سالم… معلق ]
كانت وَفاةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حدَثًا جَلَلًا في تاريخِ الإسْلامِ؛ فقدِ انقطَعَ الوَحيُ المُباشِرُ مِن السَّماءِ، وفُجِعَ المُسلِمونَ فَجْعةً لا مَثيلَ لها، ولكنْ قيَّضَ اللهُ أبا بَكرٍ لهذا المَوقِفِ، فجَمَع اللهُ به كَلمةَ المُسلِمينَ ووحَّدَها بعْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفي هذا الحَديثِ تَرْوي عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا مات كان أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه غائبًا عندَ زَوْجتِه بِنتِ خارِجةَ الأنْصاريِّ بالسُّنْحِ، يَعني: بالعاليةِ، وهي مَنازِلُ بَني الحارِثِ في المَدينةِ، وفي رِوايةٍ: أنَّ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها أخبَرَتْ أنَّ بصَرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ شخَصَ وارتفَعَ نَحْوَ السَّماءِ، عندَ وَفاتِه حينَ خُيِّرَ، ثمَّ قال: «في الرَّفيقِ الأعْلى»، أي: في المَلأِ الأعْلى، قالها ثَلاثًا، والرَّفيقُ الأعْلى هم {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}، وقيلَ: هو الجَنَّةُ، وقيل: جَماعةُ الأنْبياءِ الَّذين يَسكُنونَ أعْلى عِلِّيِّينَ. وعندَ انْتِشارِ خَبرِ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قام عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يَقولُ: واللهِ ما مات رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم يَحلِفُ رَضيَ اللهُ عنه: «واللهِ ما كانَ يقَعُ في نَفْسي إلَّا ذاك»، أي: عدَمُ مَوْتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولَيَبعَثَنَّه اللهُ عزَّ وجلَّ في الدُّنْيا، فلَيَقْطَعَنَّ أيْديَ رِجالٍ وأرْجُلَهم قائِلينَ بمَوْتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا دخَلَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، كَشَف عن وجْهِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الغِطاءَ، فتأكَّدَ أنَّه مات، فقَبَّلَه بيْنَ عَينَيْه -كما في رِوايةِ النَّسائيِّ- ثمَّ قال: «بأبي أنتَ وأُمِّي»، أي: أفْديكَ بهما منَ المَوتِ، لو كان ذلك مُمكِنًا، «طِبْتَ حَيًّا ومَيِّتًا»، حيث كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طيِّبَ الرِّيحِ والأثَرِ في الدُّنْيا وهو حَيٌّ، وكذلك طيَّبَ اللهُ أثَرَه وريحَه وهو ميِّتٌ، ثمَّ أقسَمَ أبو بَكرٍ فقال: «واللهِ الَّذي نَفْسي بيَدِه، لا يُذيقُكَ اللهُ المَوتَتَينِ أبَدًا»، قيلَ: يَعني بذلك: لا يَجمَعُ اللهُ عليكَ شِدَّةً بعْدَ المَوتِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قدْ عصَمَكَ مِن أهْوالِ القيامةِ. وقيلَ: لا يَموتُ مَوتةً أُخْرى في قَبرِه، كما يَحْيا غيرُه في القَبرِ، فيُسألُ ثمَّ يُقبَضُ. وقيلَ: بل أشارَ بذلك إلى مَن زعَمَ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَمُتْ، وأنَّه سيَحْيا ، فيَقطَعُ أيْديَ رِجالٍ وأرجُلَهم؛ لأنَّه لو صَحَّ ذلك للزِمَ أنْ يَموتَ مَوْتةً أُخْرى في الدُّنْيا، فأخبَرَ أنَّه أكرَمُ على اللهِ مِن أنْ يَجمَعَ عليه مَوتَتَينِ، كما جمَعَهما على غَيرِه، كالَّذين خَرَجوا مِن ديارِهم وهمْ أُلوفٌ، وكالَّذي مَرَّ على قَرْيةٍ، كما قصَّ اللهُ نَبأهُم في سُورةِ البقَرةِ. ثمَّ خرَج أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن عندِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يُكلِّمُ النَّاسَ -وكأنَّه رَضيَ اللهُ عنه ما زالَ يُكرِّرُ حَلِفَه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما مات- فنادَى عليه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بقَولِه: «أيُّها الحالِفُ، على رِسلِكَ»، أي: تَمهَّلْ وتَوقَّفْ، فلمَّا تكلَّمَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه جلَس عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه ، فحَمِدَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه اللهَ تعالَى، وأثْنى عليه، وقال: ألَا مَن كانَ يَعبُدُ مُحمَّدًا فإنَّ مُحمَّدًا قد مات، وصدَق عليه قَدَرُ اللهِ، ومَن كانَ يَعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَموتُ، ثمَّ تَلا قولَ اللهِ تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر: 30]؛ فإنَّ الكُلَّ بصَدَدِ المَوتِ، وفي ذلك كلِّه تَذْكيرٌ للنَّاسِ، واستِشْهادٌ على صِحَّةِ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَلا قولَ اللهِ تعالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} بارْتِدادِه، ومَعْناها: وما مُحمَّدٌ إلَّا رَسولٌ مِن جِنسِ مَن سبَقَه مِن رُسلِ اللهِ الَّذين ماتوا أو قُتِلوا، أفإنْ ماتَ هو، أو قُتِلَ ارتَدَدْتم عن دِينِكم، وترَكْتمُ الجِهادَ؟! ومَن يَرتَدَّ منكم عن دِينِه فلنْ يضُرَّ اللهَ شَيئًا؛ إذ هو القَويُّ العَزيزُ، وإنَّما يضُرُّ المُرتَدُّ نفْسَه بتَعْريضِها لخَسارةِ الدُّنْيا والآخِرةِ، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عِمران: 144]، له أحسَنَ الجَزاءِ بثَباتِهم على دِينِه، وجِهادِهم في سَبيلِه. وهنا تَأكَّدَ للجَميعِ مَوتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «فنشَجَ النَّاسُ» يَبْكونَ، ونَشيجُ الإنْسانِ: إذا غُصَّ بالبُكاءِ في حَلْقِه مِن غَيرِ انْتِحابٍ، أو هو بُكاءٌ معَه صَوتٌ. ثمَّ إنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم اجتَمَعوا لاخْتيارِ مَن يَخلُفُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على المُسلِمينَ، ويقومُ على أمْرِ الأمَّةِ، فاجتَمَعَ الأنْصارُ -وهمْ أهلُ المَدينةِ- إلى سَعدِ بنِ عُبادةَ، وكان نَقيبَ بَني ساعِدةَ؛ لأجْلِ التَّشاوُرِ في أمرِ الخِلافةِ، وكان هذا الاجْتِماعُ في سَقيفةِ بَني ساعِدةَ، وهو مَوضِعٌ مُسقَّفٌ يَجتَمِعُ إليه الأنْصارُ، وبَنو ساعِدةَ: بَطْنٌ مِنَ الخَزْرجِ، فقال الأنْصارُ للمُهاجِرينَ: منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، قالوا ذلك على عادةِ العَرَبِ الجاريةِ بيْنَهم؛ ألَّا يَسودَ القَبيلةَ إلَّا رَجلٌ منهم، فذهَب إليهم أبو بَكرٍ، وعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وأبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنهم، لمَّا عَلِموا بهذا الاجتِماعِ، فأرادَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَتكَلَّمَ، فأسْكَتَه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يَقولُ: واللهِ ما أرَدْتُ بذلك إلَّا أنِّي قد هيَّأْتُ كَلامًا قد أعْجَبَني، خَشيتُ ألَّا يَبلُغَه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بكلامِه، ثمَّ تَكلَّمَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فكان أبلَغَ النَّاسِ، فقال في كَلامِه: نحنُ -أي: قُرَيشٌ- الأُمراءُ، وأنتم -أي: الأنْصارُ- الوُزَراءُ المُسْتَشارونَ في الأُمورِ؛ وذلك لحَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الخِلافةَ لا تَكونُ إلَّا في قُرَيشٍ، فقال حُبابُ بنُ المُنذِرِ رَضيَ اللهُ عنه مُعتَرِضًا: لا واللهِ، لا نَفعَلُ ذلك، ولكنْ منَّا أميرٌ ومنكم أميرٌ، فقال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: لا، ولكنَّا الأُمراءُ، وأنتمُ الوُزَراءُ. ثمَّ تابَعَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّ قُرَيشًا أوسَطُ العَرَبِ دارًا، أي: هم أشرَفُ قَبيلةٍ، وأعرَبُهم أحْسابًا، والحَسَبُ: الفِعالُ الحِسانُ، ثمَّ طلَب أبو بَكرٍ منَ الحاضِرينَ أنْ يُبايِعوا عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ أو أبا عُبَيدةَ بنَ الجرَّاحِ. فأحالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه على الفَورِ البَيْعةَ إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وقال مُعدِّدًا لمَناقِبِه: «فأنتَ سَيِّدُنا، وخَيرُنا، وأحَبُّنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، ثمَّ أخَذَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بيَدِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فبايَعَه، وبايَعَه النَّاسُ المُهاجِرونَ، وكذا الأنْصارُ، فقال قائلٌ منَ الأنْصارِ: قتَلْتُم سَعدَ بنَ عُبادةَ، أي: كِدْتُم تَقتُلونَه، أو هو كِنايةٌ عنِ الإعْراضِ والخِذْلانِ، فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: «قتَلَه اللهُ» دُعاءً عليه؛ لعَدَمِ نُصرَتِه للحقِّ، وتَخَلُّفِه -فيما قِيلَ- عن بَيْعةِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وامْتِناعِه منها، والعُذرُ له في تَخلُّفِه عن بَيعةِ الصِّدِّيقِ: أنَّه تَأوَّلَ أنَّ للأنصارِ استحقاقًا في الخلافةِ، فهو مَعذورٌ وإنْ كان ما اعتَقَدَه مِن ذلك خَطأً. وتُخبِرُ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها عن خُطبةِ كلٍّ مِن عُمَرَ وأبي بَكرٍ في وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فتَقولُ: «فما كانت مِن خُطْبتِهما»، أي: خُطبةِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ، «مِن خُطْبةٍ إلَّا نفَع اللهُ بها، لقد خوَّفَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه النَّاسَ»، بقَولِه: «ليَقْطَعَنَّ أيْديَ رِجالٍ وأَرْجُلَهُمْ» كان فيهم نِفاقٌ، وكانوا مَوْجودينَ عندَ مَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهمُ الَّذين عرَّضَ بهم عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه، «فرَدَّهمُ اللهُ بذلك» إلى الحَقِّ، «ثمَّ لقدْ بصَّرَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه النَّاسَ الهُدى»، وأوْضَحَه لهم، «وعرَّفَهمُ الحَقَّ» الَّذي عليهم، وخَرَجوا بسَبَبِ قَولِه وتِلاوتِه ما ذُكِرَ وهم يَتْلونَ قولَ اللهِ تعالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} إلى قولِه: {الشَّاكِرِينَ} [آل عِمرانَ: 144]، فأيْقَنوا بمَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعادوا إلى كِتابِ اللهِ، فكان ذلك تَثْبيتًا لهمْ على الحقِّ والهُدى.
وفي الحَديثِ: بَيانُ بَعضِ مَناقبِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: أنَّ الصَّدَماتِ قدْ تُذهِلُ عُقولَ بَعضِ النَّاسِ، فيَنبَغي الرِّفقُ بهم حتَّى يَعودوا إلى وَعْيِهم.
وفيه: أنَّ المَوتَ حقٌّ على كلِّ حيٍّ.
وفيه: تَغْطيةُ الميِّتِ بعدَ مَوتِه.
وفيه: مَشروعيَّةُ تَقْبيلِ الميِّتِ بينَ عَينَيهِ.
وفيه: سَعيُ عُقلاءِ الأُمَّةِ وذَوي الهَيْئاتِ في تَولِّي أُمورِ الأمَّةِ، وتَرْشيدِ حالِها، ورِعايةِ مَصالِحِها.
تاريخ اليعقوبي – اليعقوبي – ج ٢ – الصفحة ١٢٣
خبر سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، يوم توفي رسول الله… 1 يغسل، فأجلست سعد بن عبادة الخزرجي، وعصبته بعصابة، وثنت له وسادة. وبلغ أبا بكر وعمر والمهاجرين، فأتوا مسرعين، فنحوا الناس عن سعد، وأقبل أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالوا: يا معاشر الأنصار! منا رسول الله، فنحن أحق بمقامه. وقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير! فقال أبو بكر: منا الامراء وأنتم الوزراء. فقام ثابت بن قيس ابن شماس، وهو خطيب الأنصار، فتكلم وذكر فضلهم. فقال أبو بكر: ما ندفعهم عن الفضل، وما ذكرتم من الفضل فأنتم له أهل، ولكن قريش أولى بمحمد منكم، وهذا عمر بن الخطاب الذي قال رسول الله: اللهم أعز الدين به! وهذا أبو عبيدة بن الجراح الذي قال رسول الله: أمير هذه الأمة، فبايعوا أيهما شئتم! فأبيا عليه وقالا: والله ما كنا لنتقدمك، وأنت صاحب رسول الله وثاني اثنين. فضرب أبو عبيدة على يد أبي بكر، وثنى عمر، ثم بايع من كان معه من قريش. ثم نادى أبو عبيدة: يا معشر الأنصار! إنكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غير وبدل. وقام عبد الرحمن بن عوف فتكلم فقال: يا معشر الأنصار، إنكم، وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي، وقام المنذر بن أرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت، وإن فيهم لرجلا لو طلب هذا الامر لم ينازعه فيه أحد، يعني علي بن أبي طالب.
—————
(1) بياض في الأصل.
(١٢٣)
فوثب بشير بن سعد من الخزرج، فكان أول من بايعه من الأنصار، وأسيد بن حضير الخزرجي، وبايع الناس حتى جعل الرجل يطفر وسادة سعد بن عبادة، وحتى وطئوا سعدا. وقال عمر: اقتلوا سعدا، قتل الله سعدا. وجاء البراء بن عازب، فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر. فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، ورب الكعبة. وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي، فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، وكان لسان قريش، فقال: يا معشر قريش، إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه، ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم.
وقام عتبة بن أبي لهب فقال:
ما كنت أحسب أن الامر منصرف ***** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
عن أول الناس إيمانا وسابقة، ***** وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخرالناس عهدا بالنبي، ومن ***** جبريل عون له في الغسل والكفن
من فيه ما فيهم لا يمترون به، ***** وليس في القوم ما فيه من الحسن
فبعث إليه علي فنهاه. وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم: العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة، فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الامر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي، إذا مال معكم، فانطلق أبو
(١٢٤)
بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله بعث محمدا نبيا وللمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمورا ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين، فاختاروني عليهم واليا ولأمورهم راعيا، فوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتشديده وهنا، ولا حيرة، ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، وما انفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكون حصنه المنيع وخطبه البديع. فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، وإما صرفتموهم عما مالوا إليه، ولقد جئناك ونحن نريد أن لك في هذا الامر نصيبا يكون لك، ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان صاحبك… 1 عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله منا ومنكم. فقال عمر بن الخطاب: إي والله وأخرى، إنا لم نأتكم لحاجة إليكم، ولكن كرها أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم. فحمد العباس الله وأثنى عليه وقال: إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا، فمن على أمته به، حتى قبضه الله إليه، واختار له ما عنده، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فإن كنت برسول الله فحقا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرضا، ولا حللنا وسطا، ولا برحنا سخطا، وإن كان هذا الامر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين. ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك ومالوا إليك، وما أبعد تسميتك
—————
(1) بياض في الأصل.
(١٢٥)
بخليفة رسول الله من قولك خلى على الناس أمورهم ليختاروا فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي، فإن كان حقا للمؤمنين، فليس لك أن تحكم فيه، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، وعلى رسلك، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها. فخرجوا من عنده. وكان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، وقال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الامر عليكم غيركم؟
وقال لعلي بن أبي طالب:
امدد يدك أبايعك، وعلي معه قصي، وقال: بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم ***** ولا سيما تيم بن مرة أو عدي فما الامر إلا فيكم وإليكم، ***** وليس لها إلا أبو حسن علي أبا حسن، فاشدد بها كف حازم، ***** فإنك بالامر الذي يرتجى ملي وإن امرأ يرمي قصي وراءه ***** عزيز الحمى، والناس من غالب قصي وكان خالد بن سعيد غائبا ، فقدم فأتى عليا فقال: هلم أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك. واجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة له، فقال لهم: اغدوا على هذا محلقين الرؤوس. فلم يغد عليه إلا ثلاثة نفر. وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت: والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولا عجن إلى الله! فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياما. ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد ستة أشهر وقيل أربعين يوما.
(١٢٦)
كتاب تاريخ الطبري كتاب تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري [أبو جعفر ابن جرير الطبري] ج: 3 ص: 217
حوادث السنة الحادية العشرة بعد وفاة رسول الله ذكر الخبر عن اليوم والشهر اللذين توفى فيهما رسول الله ص
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ الْجُرْجَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عن ابن عمر، ان النبي ص اسْتَعَمَلَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، فَأَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَّ رسول الله ص حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَصَدَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقُبِضَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ. حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وُلِدَ النبي ص يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد ابن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَ رسول الله ص فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَدُفِنَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ: حَدِّثِي مُحَمَّدًا مَا سَمِعْتِ مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقَالَتْ: سَمِعْتُ عَمْرَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: دُفِنَ نبى الله ص لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ، وَمَا عَلِمْنَا بِهِ حَتَّى سَمِعْنَا صوت المساحى
ص: 218
ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار فِي أمر الإمارة فِي سقيفة بني ساعدة حَدَّثَنَا هشام بْن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الله ابن عبد الرحمن بْن أبي عمرة الأنصاري، أن النبي ص لما قبض اجتمعت الأنصار فِي سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد ع سعد بْن عبادة، وأخرجوا سعدا إِلَيْهِم وهو مريض، فلما اجتمعوا قَالَ لابنه أو بعض بني عمه: إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه، فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيسمع أصحابه، فَقَالَ بعد أن حمد الله وأثنى عَلَيْهِ: يا معشر الأنصار، لكم سابقة فِي الدين وفضيلة فِي الإسلام ليست لقبيله من العرب، ان محمدا ع لبث بضع عشرة سنة فِي قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، وَكَانَ ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رَسُول اللَّهِ، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حَتَّى إذا أراد بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم اللَّه الإيمان به وبرسوله، والمنع لَهُ ولأصحابه، والإعزاز لَهُ ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حَتَّى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا، حَتَّى أثخن الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم لَهُ العرب، وتوفاه اللَّه وهو عنكم راض، وبكم قرير عين استبدوا بهذا الأمر فإنه لكم دون الناس. فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت فِي الرأي وأصبت فِي القول، ولن نعدو ما رأيت، ونوليك هذا الأمر، فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضا ثُمَّ إنهم ترادوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رَسُول اللَّهِ الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا: منا أمير
ص: 219
ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا فَقَالَ سعد بْن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن! وأتى عمر الخبر، فأقبل الى منزل النبي ص، فأرسل إلى أبي بكر وأبو بكر فِي الدار وعلى بن ابى طالب ع دائب في جهاز رسول الله ص، فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلي، فأرسل إليه: إني مشتغل، فأرسل إليه أنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره، فخرج إليه، فَقَالَ: أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت فِي سقيفة بني ساعدة، يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بْن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن قريش أمير! فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بْن الجراح، فتماشوا إِلَيْهِم ثلاثتهم، فلقيهم عاصم بْن عدي وعويم بْن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل، فجاءوا وهم مجتمعون فَقَالَ عمر بْن الْخَطَّاب: أتيناهم- وقد كنت زورت كلاما أردت أن أقوم به فيهم- فلما أن دفعت إِلَيْهِم ذهبت لأبتدئ المنطق، فَقَالَ لي أبو بكر: رويدا حَتَّى أتكلم ثُمَّ انطق بعد بما أحببت فنطق، فَقَالَ عمر: فما شيء كنت أردت أن أقوله إلا وقد أتى به أو زاد عليه. فَقَالَ عبد الله بْن عبد الرحمن: فبدأ أبو بكر، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه بعث محمدا رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته، ليعبدوا اللَّه ويوحدوه وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثُمَّ قرأ: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» ، وقالوا: «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» ، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص اللَّه المهاجرين الأولين من
220 ص
قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة لَهُ، والصبر معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف، زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وشنف الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله فِي الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذَلِكَ إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمه في الاسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا احد بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور. قَالَ: فقام الحباب بْن المنذر بْن الجموح، فَقَالَ: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم، فإن الناس فِي فيئكم وفي ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدد والمنعة والتجربة، ذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنهم أمير. فَقَالَ عمر: هيهات لا يجتمع اثنان فِي قرن! والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لاثم، ومتورط فِي هلكة! فقام الحباب بْن المنذر فَقَالَ: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه، فاجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فانه بأسيافكم دان لهذا الذين من دان ممن لم يكن يدين أنا جذيلها
221 ص
المحكك، وعذيقها المرجب! أما واللَّه لئن شئتم لنعيدنها جذعة، فَقَالَ عمر: إذا يقتلك الله! قَالَ: بل إياك يقتل! فَقَالَ أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير. فقام بشير بْن سعد أبو النعمان بْن بشير فَقَالَ: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة فِي جهاد المشركين، وسابقة فِي هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك، ألا ان محمدا ص من قريش، وقومه أحق به وأولى وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم! فَقَالَ أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، وخليفة رَسُول اللَّهِ على الصلاة، والصلاة أفضل دين الْمُسْلِمين، فمن ذا ينبغي لَهُ أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك! ابسط يدك نبايعك. فلما ذهبا ليبايعاه، سبقهما إليه بشير بن سعد، فبايعه، فناداه الحباب ابن المنذر: يا بشير بن سعد: عقتك عقاق، ما أحوجك إلى ما صنعت، أنفست على ابن عمك الإمارة! فَقَالَ: لا والله، ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله اللَّه لهم. ولما رأت الأوس ما صنع بشير بْن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بْن عباده، قال بعضهم لبعض، وفيهم اسيد ابن حضير- وَكَانَ أحد النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا
222 ص
أبا بكر فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بْن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا لَهُ من أمرهم. قَالَ هشام: قَالَ أبو مخنف: فحدثني أبو بكر بْن محمد الخزاعي، أن أسلم أقبلت بجماعتها حَتَّى تضايق بهم السكك، فبايعوا أبا بكر، فكان عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم، فأيقنت بالنصر. قَالَ هِشَام، عن أبي مخنف: قَالَ عَبْد اللَّه بْن عبد الرحمن: فأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطئون سعد بْن عبادة، فَقَالَ ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطئوه، فَقَالَ عمر: اقتلوه قتله اللَّه! ثُمَّ قام على رأسه، فَقَالَ: لقد هممت أن أطأك حَتَّى تندر عضدك، فأخذ سعد بلحية عمر، فَقَالَ: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فَقَالَ أبو بكر: مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ فأعرض عنه عمر وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة ما، أقوى على النهوض، لسمعت مني فِي أقطارها وسككها زئيرا يجحرك وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع! احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه فِي داره، وترك أياما ثُمَّ بعث إليه أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك، فَقَالَ: أما والله حَتَّى أرميكم بما فِي كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل، وايم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مَعَ الإنس ما بايعتكم، حَتَّى أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي. فلما أتى أبو بكر بذلك قَالَ لَهُ عمر: لا تدعه حَتَّى يبايع فَقَالَ لَهُ بشير بْن سعد: إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حَتَّى يقتل، وليس بمقتول حَتَّى يقتل معه ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد فتركوه وقبلوا مشورة بشير بْن سعد واستنصحوه لما بدا لهم منه،
223 ص
فكان سعد لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع معهم ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم، فلم يزل كذلك حَتَّى هلك أبو بكر رحمه الله. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حدثنا عمى، قال: أخبرنا سيف ابن عُمَرَ، عَنْ سَهْلٍ وَأَبِي عُثْمَان، عَنِ الضَّحَّاكِ بن خليفه، قال: لما قام الحباب ابن الْمُنْذِرِ انْتَضَى سَيْفَهُ، وَقَالَ: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ وعذيقها المرجب، انا ابو شبل في عريسة الأَسَدِ، يُعْزَى إِلَى الأَسَدِ فَحَامَلَهُ عُمَرُ فَضَرَبَ يَدَهُ، فَنَدَرَ السَّيْفَ، فَأَخَذَهُ ثُمَّ وَثَبَ عَلَى سَعْدٍ وَوَثَبُوا عَلَى سَعْدٍ، وَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْبَيْعَةِ، وَبَايَعَ سَعْدٌ، وَكَانَتْ فَلْتَةٌ كَفَلَتَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ دُونَهَا وَقَالَ قَائِلٌ حِينَ أُوطِئَ سَعْدٌ: قَتَلْتُمْ سَعْدًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَتَلَهُ اللَّهُ! إِنَّهُ مُنَافِقٌ، وَاعْتَرَضَ عُمَرُ بِالسَّيْفِ صَخْرَةً فقطعه. حدثنا عبيد الله بن سعيد، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَوْمَئِذٍ لأَبِي بَكْرٍ: إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ حَسَدْتُمُونِي عَلَى الإِمَارَةِ، وَإِنَّكَ وَقَوْمِي أَجْبَرْتُمُونِي عَلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالُوا: إِنَّا لَوْ أَجْبَرْنَاكَ عَلَى الْفُرْقَةِ فَصِرْتَ إِلَى الْجَمَاعَةِ كُنْتَ فِي سعه، ولكنا اجبرنا عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَلا إِقَالَةَ فِيهَا، لَئِنْ نَزَعْتَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، أَوْ فَرَّقْتَ جَمَاعَةً، لَنَضْرِبَنَّ الذى فيه عيناك . ذكر امر ابى بكر في أول خلافته حدثنا عبيد الله بن سعد، قال: أخبرنا عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفٌ- وَحَدَّثَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ- عَنْ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: نَادَى مُنَادِي أَبِي بَكْرٍ، مِنْ بَعْدِ الْغَدِ مِنْ متوفى رسول الله ص: لِيُتَمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ، أَلا لا يَبْقَيَنَّ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ مِن جُنْدِ أُسَامَةَ إِلا خَرَجَ إِلَى عَسْكَرِهِ بِالْجُرْفِ وَقَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ:
تهربهم من اليعقوبي سني
توفي في مصر سنة 284هـ (897 م)
اليَعْقُوبِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ المَعْرُوفِ هُوَ أَبُو العَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ (أَبِي يَعْقُوبَ) بْنِ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ وَاضِحٍ الكَاتِبِ العَبَّاسِيِّ.
تَرْجَمَ لَهُ كُلٌّ مِنْ:
– يَاقُوتٍ الحَمَوِي (ت 626 ه) فِي مُعْجَمِ الأُدَبَاءِ ج2 ص557، نَاقِلًا تَرْجُمَتَهُ عَنْ تَارِيخِ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الكِنْدِيِّ المِصْرِيِّ المُؤَرِّخِ (ت 358 ه).
– وَابْنِ السَّاعِي (ت 674 ه) فِي الدُّرِّ الثَّمِينِ فِي أَسْمَاءِ المُصَنِّفِينَ ص295، وَأَثْنَى عَلَيْهِ.
– وَالمقْرِيزِيِّ (ت 845 ه) فِي المقفى الكَبِيرِ ج1 ص454.
– وَالزَّركَلِيِّ فِي الأَعْلَامِ ج1 ص95.
وَغَيْرِهِمْ.
وَلَمْ يَذْكُرُوهُ تَشَيَّعَ وَلَا تَرَفَّضَ.
وَنَقَلَ عَنْهُ كُلٌّ مِنْ:
– أَبِي بَكْرٍ الإِشْبِيلِيِّ (ت 379 ه) فِي طَبَقَاتِ النَّحْوِيِّينَ وَاللُّغَوِيِّينَ بِتَرْجُمَةِ أَبِي عُثْمَانَ المَازِنيِّ.
– وَأَكْثَرَ النَّقْلَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ المَقْدِسِيُّ (المُتَوَفَّى حَوَالَيْ 390 ه) فِي كِتَابِهِ جَيْبِ العَرُوسِ وَرَيْحَانِ النُّفُوسِ.
– وَنَقَلَ ابْنُ عَسَاكِرَ (ت 571 ه) فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ خَبَرًا عَنْ جَدِّهِ وَاضِحًا، وَقَعَ اليَعْقُوبِيُّ فِي طَرِيقِهَا.
– وَأَكْثَرَ ابْنُ العَدِيمِ (ت 660 ه) النَّقْلَ عَنْهُ فِي بُغْيَةِ الطَّلَبِ فِي تَارِيخِ حَلَبٍ.
– وَنَقَلَ عَنْهُ الحَمَوِيُّ أَيْضًا.
وَهَكَذَا غَيْرُهُمْ.
وَلَمْ يَذْكُرُوهُ تَشَيَّعَ وَلَا تَرَفَّضَ.
تَشَيُّعُ المُؤَرِّخِ اليَعْقُوبيّ.
– وَأَوَّلُ مَنْ أَثَارَ مَسْأَلَةَ تَشَيُّعِ اليَعْقُوبِيِّ هُوَ المُسْتَشْرِقُ الأَمْرِيكِيُّ أَدوَارد فانديك (ت 1313 ه) فِي كِتَابِهِ اكْتِفَاءِ القَنُوعِ بِمَا هُوَ مَطْبُوعٌ ج1 ص69، حَيْثُ قَالَ بِأَنَّ اليَعْقُوبِيَّ يَمِيلُ فِي غَرَضِهِ إِلَى الشِّيعِيَّةِ دُونَ السُّنِّيَّةِ!!
ثُمَّ تَبِعَهُ جرجي زَيْدَانُ (ت 1332 ه) فَإِنَّهُ قَالَ بِأَنَّ اليَعْقُوبِيَّ كَانَ شِيعِيَّ المَذْهَبِ! وَنَقَلَ عِبَارَتَهُ إليان سركيس (ت 1351 ه) فِي مُعْجَمِ المَطْبُوعَاتِ العَرَبِيَّةِ ج2 ص1948.
وَذَهَبَ بَعْضُ البَاحِثِينَ المُعَاصِرِينَ إِلَى أَنَّهُ مُعْتَدِلٌ فِي تَشَيُّعِهِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مُتَعَصِّبٌ.
وَكَلَامُهُمْ مُجَرَّدُ دَعْوًى خَالِيَةٍ عَنْ الدَّلِيلِ.
أَمَّا عِنْدَ الشِّيعَةِ :
– فَلَيْسَ لِليَعْقُوبِيِّ ذِكْرٌ وَلَا تَرْجُمَةٌ فِي المَصَادِرِ الشِّيعِيَّةِ الأُولَى كَالنَّجَاشِيِّ وَالطُّوسِيِّ وَابْنِ شَهْرِ آشُوبٍ وَمُنْتَجَبِ الدِّينِ، وَلَا أَثَرَ لِكُتُبِهِ فِي المَصَادِرِ القَدِيمَةِ عِنْدَنَا.
وَهَذِهِ أَوَّلُ قَرِينَةٍ تُرْشِدُنَا إِلَى عَدَمِ تَشَيُّعِهِ، فَلَوْ كَانَ شَيعِيًّا لَبَادَرَ أَصْحَابُ الفَهَارِسِ الشِّيعِيَّةِ إِلَى ذِكْرِهِ، لِأَنَّ لَهُ كُتُبًا عَدِيدَةً.
– وَأَوَّلُ مَنْ ذَكَرَ اليَعْقُوبِيَّ مِنَ الشِّيعَةِ بِالتَّشَيُّعِ هُوَ الشَّيْخُ آغَا بُزُرْك الطَّهْرَانِيُّ، وَالسَّيِّدُ مُحْسِنٌ الأَمِينُ العَامِلِيُّ.
أَمَّا آغا بُزُرْك: فَإِنَّهُ ذَكَرَ كِتَابَهُ البُلْدَانَ، وَنَقَلَ عِبَارَةَ المُسْتَشْرِقِ إدوَارد فانديك فِي اكْتِفَاءِ القَنُوعِ، ثُمَّ ذَكَرَ كِتَابَهُ التَّارِيخَ وَنَقَلَ عَنْ اليان سركيس أَنَّهُ شِيعِيُّ المَذْهَبِ، وَعَنْ إدوَارد فانديك أَنَّهُ يَمِيلُ إِلَى التَّشَيُّعِ.
وَهَذَا يُرْشِدُنَا إِلَى أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا السَّيِّدُ مُحْسِنٌ الأَمِينُ: فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى قَرَائِنَ لَا تُفِيدُ تَشَيُّعَهُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ يَظْهَرُ تَشَيُّعُهُ مِنْ كِتَابِهِ التَّارِيخِ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ الغَدِيرِ، وَأَنَّهُ ذَكَرَ الإِمَامَ الرِّضَا (عَ) فِي كِتَابِهِ البُلْدَانِ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ جرجي زَيْدَانَ أَنَّ مُؤَلِّفَهُ شِيعِيٌّ!
هَذَا غَايَةُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ السَّيِّدُ العَامِلِيُّ فِي تَشَيُّعِهِ.
وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَشَيُّعِهِ، فَخَبَرُ الغَدِيرِ مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ تَنَاقَلَهُ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.
وَأَمَّا ذِكْرُهُ لِلإِمَامِ الرِّضَا (عَ) فَهُوَ مَعْهُودٌ فِي كُتُبِ التَّرَاجُمِ وَالتَّارِيخِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.
فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا عِبَارَةُ جرجي زَيْدَانَ الَّتِي نَصَّ فِيهَا عَلَى تَشَيُّعِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ جرجي زَيْدَانَ تَبِعَ المُسْتَشْرِقَ إِدوَارد فانديك فِي ذَلِكَ.
– وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي حِوَارَاتِهِمُ المَذْهَبِيَّةِ بِكِتَابِ تَارِيخِ اليَعْقُوبِيِّ كَالسَّيِّدِ مِير حَامِد حُسَيْنٍ فِي العَبَقَاتِ، وَالعَلَّامَةِ الأَمِينِيِّ فِي الغَدِيرِ، وَهُمَا لَا يَسْتَدِلَّانِ بِالكُتُبِ الشِّيعِيَّةِ عَلَى الخَصْمِ.
النَّتِيجَةُ: اليَعْقُوبِيُّ مُؤَرِّخٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، تَرْجَمُوا لَهُ وَنَقَلُوا عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي مَصَادِرِنَا الأَوَّلِيَّةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَشَيُّعُهُ وَلَا تَرَفُّضُهُ، نَعَمْ هُوَ كَاتِبٌ مُعْتَدِلٌ، يَكْتُبُ بِحُرِّيَّةٍ نَوْعًا مَا.
هَذَا خُلَاصَةُ مَا نَمِيلُ إِلَيْهِ بَعْدَ البَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ.
وَدُمْتُمْ سَالِمِينَ.
