هل يصحّ حديث (اول ما خلق الله نور نبيّك يا جابر)؟
ذكر هذا الحديثَ الشريفَ جمعٌ من المحدثين ونسبوه إلى مصنف الإمام عبد الرزاق ، وجزء من المصَنف مفقود، ومعنى الحديث صحيح. التفصيل:
إنّ هذا الحديث ذكره كثيرٌ من الحفاظ والمحدثين والفقهاء وعنكم منهم:
الإمام المحدث القسطلاني في كتابه الرائع (المواهب اللدنيّة بالمنح المحمدية) صلّى الله تعالى عليه وآله (1/48).
والعلامة الزرقاني رحمه الباري سبحانه في شرحهِ على كتاب (المواهب اللدنية) (1/54).
والعلامة عبد الملك بن محمد بن إبراهيم النّيسابوري رحمه الفرد الصمد جلّ جلاله في كتابه: (شرف المصطفى) عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه أهل الوفا (1/307).
وذكرهُ العلامة يحيى بن أبي بكر بن محمد العامري الحرضي في كتابه: (بهجة المحافل وبغية الأماثل) (1/15).
وذكره العلامة الديار بكري في كتابه: (تأريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس) (1/19).
وذكره العلامة علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي في كتابه: (السيرة الحلبية) (1/47).
كما ذكره أيضًا العلامة الدردير في كتابه: (بلغة السالك) (4/778).
وذكره الإمام الآلوسي في تفسيره روح المعاني. (1/100، 9/100).
وبيّن هؤلاء الحفّاظ أنّ الحديث في مصنف الإمام عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله جلّ في علاه، وأنّ المصنِّفَ رواه بسنده إلى سيّدنا جابر رضي الله تعالى عنه وعنكم، علمًا أنّ العلامة يحيى بن أبي بكر بن محمد الحرضي قال:-
(بِسَنَدٍ مُسْتَقِيْمٍ) بَهجة المحافل وبغية الأماثل (1/15).
ولكن المعروف أنّ الجزء الذي فيه الحديث من المصنف مفقود.
وقد حكم عليه بعض المتأخرين بالوضع للأسباب التالية:-
1- لم يوجد في مصنف الإمام عبد الرزاق ، لا في جامعه، ولا تفسيره.
2- لا يوجد له سند من المصنف إلى سيّدنا جابر رضي الله تعالى عنه.
3- في بعض ألفاظ متنهِ ركاكة.
4- عارض بعض أحاديث أولية الخلق، كخلق القلم، والعرش، والماء.
ومن خلال التتبّع لهذا الحديث الشريف تبيّن ما يأتي:-
1- إنّ مصنّف الإمام عبد الرزاق فُقِدَ منه جزءٌ وهذا معروف عند أهل العلم، والحديث في الجزء المفقود وليس غير موجود، لذلك نسبه أئمة الحديث إلى المصنف رحمه الباري سبحانه، وهؤلاء أئمة ثقات، ولهم براعة بهذا الفنّ، ونسبتهم إلى المصدر عن دراية.
2- قال الحافظ الإمام ابن حجر رحمه الله جلّ جلاله:-
(إِنَّ رَكَاكَةَ اللَّفْظِ لَا تَدُلُّ عَلَى الوَضْعِ، حَيْثُ جُوِّزَتِ الرِّوَايَةُ بِالمَعْنَى) النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/125).
3- هذا الحديث لا يتعارض مع أحاديث الأولية في الخلق، فقد جاء في روايات مختلفة أنّ أول الخلق (النور المحمدي، وفي راوية القلم، وفي رواية العرش، وفي رواية الماء، وفي رواية العقل، وفي رواية الظلمة والنور) والتعارض لا يؤدي إلى الوضع.
ولقد وجّه العلماء وعنكم هذه الروايات: ينظر محاضرة للأستاذ: عبد القادر رماص:-
قال الإمام العجلوني:-
(واختُلِف هل القلم أوّل المخلوقات بعد النور المحمدي أم لا؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أنّ العرش قبل القلم، لِما ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدّر الله مقادير الخلق قبل أنْ يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء.
فهذا صريح في أنّ التقدير وقع بعد خلق العرش.
والتقدير وقع عند أوّل خلق القلم، فحديث عبادة بن الصامت مرفوعا “أوّل ما خلق الله القلم، فقال له أكتب، فقال: ربّ وما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كلّ شيء” رواه أحمد والترمذي وصحّحه، وروى أحمد والترمذي وصححه أيضا من حديث أبي رزين العقيلي مرفوعا: إنّ الماء خلق قبل العرش، وروى السدي بأسانيد متعددة إنّ الله لم يخلق شيئًا ممّا خلق قبل الماء.
فيجمع بينه وبين ما قبله بأنّ أوليّة القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبويّ والماء والعرش انتهى، وقيل: الأولية في كلّ شيء بالإضافة إلى جنسه، أي أوّل ما خلق الله من الأنوار نوري) كشف الخفا ومزيل الإلباس (1/302).
لم يذكره أئمة الحديث وعنكم في كتب الوضع فيما اطلعت عليه، فكيف يُحكم عليه بالوضع ولم يُعثر عليه، وقد ذكره أئمة ثقات.
قال الدكتور محمود صبيح الأزهري:-
(وَحَدِيْثُ جَابِرٍ حَدِيْثٌ مَفْقُوْدٌ، وَلَيْسَ بِمَوْضُوْعٍ، وَشَتَّانَ بَيْنَ الحَدِيْثِ المَوْضُوْعِ وَالحَدِيْثِ المَفْقُوْدِ، كَمَا قَالُوْا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَاقِ وَهُنَاكَ جُزْءٌ حُقِيْقِيٌّ مَفْقُوْدٌ مِنْهُ).
أمّا معناه فصحيح.
ولقد ذكر العلماء النور المحمدي كما تقدم وأضيف إليهم ما ذكره العلامة البدر العيني رحمه الكريم المنان:ـ
(وَقِيْلَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى نُوْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. قُلْتُ: التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ الأَوَلِّيَّةَ نِسْبِيُّ، وَكُلُّ شَيْءٍ قِيْلَ فِيْهِ إِنَّهُ أَوَّل فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا بَعْدَهَا) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/109).
وقال العلامة الدردير :ـ
(وَنُوْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلُ الأَنْوَارِ) بلغة السالك (4/ 778).
(وَهَذَا المَعْنَى هُوَ مِنَ الشَّرْعِ الشَّرِيْفِ، فَمَا هُوَ مُقَرَرٌ فِي الشَّرِيْعَةِ الغَرَّاءِ أَنَّ نَبِيَّنَا وَسَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيْمُ، بَلْ هُوَ أَفْضَلُ الخَلْقِ عَلَى الإِطْلَاقِ) ينظر الأم للإمام الشافعي (4/167)، شرح صحيح مسلم للإمام النووي (15/137)، المقاصد للإمام النووي ص11، فيض القدير للمناوي (4/516)، إتحاف السادة المتقين (8/16)، مجموع الفتوى للشيخ ابن تيمية (1/313)، روح المعاني (4/284).
فإذا كان صلّى الله تعالى عليه وآله هو أفضل الخلق، فنورهُ هو السابق، وهو أصل الأنوار.
وقال الإمام الآلوسي :-
(كَانَ نُوْرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ المَخْلُوْقَاتِ) روح المعاني (17/150).
وبناءً على ما تقدّم يمكن القول:-
لا يمكن وصف الحديث الشريف بالوضع، لأنّ معناه صحيح فالنورانية في حضرة النبيّ عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام ثابتة في نصوص الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، قال الحقّ جلّ جلاله:- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [سورة الأحزاب: 45 – 46].
وقال عزّ شأنه:- {— قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [سورة المائدة: 15].
النّور هنا هو سيّدنا رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وآله وصحبه. ينظر: تفسير الطبري (10/143)، معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/161)، تفسير البغوي (2/32)، تفسير الرازي (11/327)، تفسير القرطبي (6/118)، روح البيان (1/395)، فتح القدير للشوكاني (2/28)، تفسير المراغي (6/80)، التفسير الوسيط لطنطاوي (4/90) رحمهم الله عزّ وجلّ.
وعَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ:-
(كُنْتُ قَاعِدَةً أَغْزِلُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَجَعَلَ جَبِينُهُ يَعْرَقُ وَجَعَلَ عَرَقُهُ يَتَوَلَّدُ نُورًا فَبُهِتُّ فَنَظَرَ إِلِيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَالَكِ يَا عَائِشَةُ بُهِتِّ؟ قُلْتُ: جَعَلَ جَبِينُكَ يَعْرَقُ وَجَعَلَ عَرَقُكَ يَتَوَلَّدُ نُورًا وَلَوْ رَآكَ أَبُو كَبِيرٍ الْهُذَلِيُّ لَعَلِمَ أَنَّكَ أَحَقُّ بِشِعْرِهِ قَالَ: وَمَا يَقُولُ أَبُو كَبِيرٍ؟ قَالَتْ: قُلْتُ يَقُولُ:
وَمُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ غَبْرَةِ حَيْضَةٍ *** وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءِ مُغَيِّلِ
فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ *** بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ
قَالَتْ: فَقَامَ إِلِيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنِيَّ وَقَالَ: جَزَاكِ اللهُ يَا عَائِشَةُ عَنِّي خَيْرًا مَا سُرِرْتِ مِنِّي كَسُرُورِي مِنْكِ) الإمام البيهقي رحمه الله جلّ ثناؤه.
وقد صدح بعض الأصحاب وعنكم بهذه النورانية بين يدي حضرته عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الأعلام فأقرّها ولم ينكرها، من ذلك ما أنشده سيّدنا العباس بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله تعالى عنه إذ قال لحضرة النبيّ صلّى الله تعالى عليه وآله بعد منصرفه من تبوك:-
(يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، لَا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ، فَقَالَ:-
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي *** مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ *** أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ *** أَلْجَمَ نَسْرًا وَأهَلَهُ الْغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ *** إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
وَرَدْتَّ نَارَ الخَلِيْلِ مُكْتَتَمًا *** فِيْ صُلْبِهِ أنْتَ كَيْفَ يَحْتَرِقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ *** خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الـ *** أَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي *** النُّورِ وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ) الإمام البيهقي .
وأنشده سيّدنا كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فقال:-
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ *** مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي *** وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ
مَهْلاً هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْـ *** قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ *** مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ. الإمام الطبراني .
والله تقدّست أسماؤه أعلم.
وصلّى الله تعالى وسلّم وبارك على مَنْ أوتي جوامع الكلم، وجميع الحِكَم، سيّدنا محمّد، وعلى آله .