اختلاف الصحابة اهل بدر
كتاب: البداية والنهاية 46 / 225
فصل اختلاف الصحابة يوم بدر في المغانم لمن تكون
وقد اختلفت الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر في المغانم من المشركين يومئذٍ، لمن تكون منهم وكانوا ثلاثة أصناف حين ولى المشركون . ففرقة أحدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم تحرسه خوفاً من أن يرجع أحد من المشركين إليه . ( ج/ص : 3/368 ) وفرقة ساقت وراء المشركين يقتلون منهم ويأسرون، وفرقة جمعت المغانم من متفرقات الأماكن . فادعى كل فريق من هؤلاء أنه أحق بالمغنم من الآخرين لما صنع من الأمر المهم .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين المسلمين عن بواء، يقول : عن سواء .
وهكذا رواه أحمد عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به . ومعنى قوله : على السواء : أي ساوى فيها بين الذين جمعوها وبين الذين اتبعوا العدو وبين الذين ثبتوا تحت الرايات، لم يخصص بها فريقاً منهم، ممن ادعى التخصيص بها، ولا ينفي هذا تخميسها وصرف الخمس في مواضعه، كما قد يتوهمه بعض العلماء منهم أبو عبيدة وغيره، والله أعلم .
بل قد تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذو الفقار من مغانم بدر . قال ابن جرير : وكذا اصطفى جملاً لأبي جهل كان في أنفه برة من فضة، وهذا قبل إخراج الخمس أيضاً . وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو، ثنا ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض .
قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا نحن نفينا منها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به . فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 1 ] ، فقسمها رسول الله بين المسلمين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعاً نفل الثلث، وكان يكره الأنفال .
وقد روى الترمذي، وابن ماجه من حديث الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث آخره، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ورواه ابن حبان في ( صحيحه ) ، والحاكم في ( مستدركه ) من حديث عبد الرحمن . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه . وقد روى أبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، من طرق عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ) ) . فسارع في ذلك شبان الرجال، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت الغنائم جاؤا يطلبون الذي جعل لهم، قال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا، فتنازعوا فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ( ج/ص : 3/369 ) وقد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية آثاراً أخرى يطول بسطها ههنا، ومعنى الكلام : أن الأنفال مرجعها إلى حكم الله ورسوله يحكما فيها بما فيه المصلحة للعباد في المعاش والمعاد .
ولهذا قال تعالى : { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . ثم ذكر ما وقع في قصة بدر وما كان من الأمر حتى انتهى إلى قوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } الآية . فالظاهر أن هذه الآية مبينة لحكم الله في الأنفال، الذي جعل مرده إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فبينه تعالى وحكم فيه بما أراد تعالى، وهو قول أبي زيد وقد زعم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر على السواء بين الناس، ولم يخمسها . ثم نزل بيان الخمس بعد ذلك ناسخاً لما تقدم .
وهكذا روى الوالبي عن ابن عباس وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي، وفي هذا نظر، والله أعلم . فإن في سياق الآيات قبل آية الخمس وبعدها كلها في غزوة بدر فيقتضي أن ذلك نزل جملة في وقت واحد غير متفاصل بتأخر يقتضي نسخ بعضه بعضاً، ثم في ( الصحيحين ) عن علي رضي الله عنه أنه قال في قصة شار فيه الذين اجتب أسنمتهما حمزة إن إحداهما كانت من الخمس يوم بدر ما يرد صريحاً على أبي عبيد أن غنائم بدر لم تخمس، والله أعلم . بل خمست كما هو قول البخاري وابن جرير وغيرهما، وهو الصحيح الراجح، والله أعلم . فصل رجوع النبي عليه السلام من بدر إلى المدينة .
في رجوعه عليه السلام من بدر إلى المدينة، وما كان من الأمور في مسيره إليها مؤيداً منصوراً عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، وقد تقدم أن الوقعة كانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، سنة اثنتين من الهجرة . ( ج/ص : 3/370 ) وثبت في ( الصحيحين ) أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثة أيام، وقد أقام عليه السلام بعرصة بدر ثلاثة أيام كما تقدم، وكان رحيله منها ليلة الاثنين فركب ناقته ووقف على قليب بدر فقرع أولئك الذين سحبوا إليه، كما تقدم ذكره . ثم سار عليه السلام ومعه الأسارى والغنائم الكثيرة . وقد بعث عليه السلام بين يديه بشيرين إلى المدينة بالفتح والنصر والظفر على من أشرك بالله وجحده وبه كفر . أحدهما : عبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة . والثاني : زيد بن حارثة إلى السافلة . قال أسامة بن زيد : فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه قد احتبس عندها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب له رسول الله بسهمه وأجره في بدر . قال أسامة : فلما قدم أبي – زيد بن حارثة – جئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول : قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري العاص بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج . قال : قلت : يا أبة أحق هذا ؟ قال : أي والله يا بني . وروى البيهقي : من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان وأسامة ابن زيد على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام بدرٍ، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة، قال أسامة : فسمعت الهيعة فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى . وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه .
وقال الواقدي : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من بدر العصر بالأثيل فلما صلى ركعة تبسم فسئل عن تبسمه فقال : ( ( مرَّ بي ميكائيل وعلى جناحه النقع فتبسم إلي وقال : إني كنت في طلب القوم، وأتاه جبريل حين فرغ من قتال أهل بدر، على فرس أنثى معقود الناصية وقد عصم ثنييه الغبار ) ) . فقال : يا محمد إن ربي بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت ؟ قال : ( ( نعم ) ) . ( ج/ص : 3/371 ) قال الواقدي : قالوا : وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله ابن رواحة من الأثيل فجاءا يوم الأحد حين اشتد الضحى وفارق عبد الله بن رواحة زيد بن حارثة من العقيق فجعل عبد الله بن رواحة ينادي على راحلته : يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وقتل زمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو . قال عاصم بن عدي : فقمت إليه فنحوته فقلت : أحقاً يا ابن رواحة ؟ فقال : أي والله وغداً يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى مقرنين . ثم تتبع دور الأنصار بالعالية يبشرهم داراً داراً والصبيان ينشدون معه يقولون : قتل أبو جهل الفاسق، حتى إذا انتهى إلى دار بني أمية وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء يبشر أهل المدينة . فلما جاء المصلى صاح على راحلته : قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أمية ابن خلف، وأبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الأسود، وأسر سهيل ابن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثير، فجعل بعض الناس لا يصدقون زيداً ويقولون : ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا .
وقدم زيد حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع . وقال رجل من المنافقين لأسامة : قتل صاحبكم ومن معه ؟ وقال آخر لأبي لبابة : قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون فيه أبداً وقد قتل عليه أصحابه وقتل محمد وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ماذا يقول من الرعب، وجاء فلا، فقال أبو لبابة : يكذب الله قولك . وقالت اليهود : ما جاء زيد إلا فلا . قال أسامة : فجئت حتى خلوت بأبي فقلت : أحق ما تقول ؟ فقال : أي والله حق ما أقول يا بني فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت : أنت المرجف برسول الله وبالمسلمين، لنقدمنك إلى رسول الله إذا قدم فليضربن عنقك . فقال : إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه . قال : فجيء بالأسرى وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد شهد معهم بدراً وهم تسع وأربعون رجلاً الذين أحصوا . قال الواقدي : وهم سبعون في الأصل مجتمع عليه لا شك فيه . قال : ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الروحاء رؤوس الناس يهنئونه بما فتح الله عليه . فقال له أسيد بن الحضير : يا رسول الله الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى العدو، ولكن ظننت أنها عير ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت . فقال له رسول الله : ( ( صدقت ) ) . قال ابن إسحاق : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً إلى المدينة ومعه الأسارى وفيهم : عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث وقد جعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار . فقال راجز من المسلمين : – قال ابن هشام : يقال إنه هو عدي بن أبي الزغباء – : أقم لها صدورها يا بسبس * ليس بذي الطلح لها معرس ولا بصحراء عمير محبس * إن مطايا القوم لا تحبَّس فحملها على الطريق أكيس * قد نصر الله وفر الأخس ( ج/ص : 3/372 ) قال : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بني المضيق وبين النازية يقال له : سير إلى سرجة به . فقسَّم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين .
فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش كما حدثني عاصم بن عمر ويزيد بن رومان : ما الذي تهنئوننا به ؟ والله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعلقة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : ( ( أي ابن أخي أولئك الملأ ) ) . قال ابن هشام : يعني : الأشراف والرؤساء .
