القرد ابو قيس
كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
[سبط ابن الجوزي] ج: 8 ص: ٢٩٨
السنة الرابعة والستون يزيد بن معاوية
وكان له قرد يقال له: أبو قيس، فكان اليوم الذي يصبح يزيد فيه مخمورا يشد القرد على فرسه يسرجه بحبال من إبريسم، والناس يمشون بين يديه، ومواكب الملك تقاد بين يديه. وكان ينادم هذا القرد، وكان يسقيه الخمر، ويلبسه الأقبية الصفر والحمر، وقلانس الذهب. وكان يسابق بين الخيل والقرد عليها، وأركب القرد على أتان وحشية، وأرسلها في الحلبة،
فقال يزيد:
تمسك أبا قيس إذا ما ركبتها … فليس عليها إن هلكت ضمان فقد سبقت خيل الجماعة كلها … وخيل أمير المؤمنين أتان (١)
فسبقت الأتان الوحشية [الخيل] (٢) كلها، وسقطت ميتة، ومات أبو قيس معها، فحزن عليه يزيد، وكفنه ودفنه، وأمر أهل الشام أن يعزوه فيه وقال يزيد في ذلك:
لم يبق قرد (٣) كريم ذو محافظة … إلا أتانا يعزي في أبي قيس
شيخ العشيرة أمضاها وأحملها … له المساعي مع القربوس والديس
يد الجياد على وحشية سبقت … ثم انثنى وعمود الموت في الكيس
لا يبعد الله قبرا أنت ساكنه … فيه الكمال وفيه لحية التيس
وجاء نعي معاوية إلى يزيد وهو بحوارين يتصيد، فلم يأت منزله حتى أتى قبر القرد فترحم عليه.
وكان يشرب الخمر مع القرد، ويحمله ويقول: هذا شيخ من بني إسرائيل أصاب خطيئة فمسخ (٤). وكان مغرى بشرب الخمر مكثرا منه، وهو القائل:
أقول لصحب جمع الكأس شملهم … وداعي صبابات الهوى يترنم
————————————–
(١) الخبر والشعر بنحوه في “أنساب الأشراف”٤/ ٣١٧ – ٣١٨. وينظر “مروج الذهب” ٥/ ١٥٧ – ١٥٨.
(٢) زدت لفظة “الخيل” من قبلي لضرورة السياق.
(٣) في “فوات الوفيات” ٤/ ٣٣٠: قرم.
(٤) ينظر “أنساب الأشراف” ٤/ ٣١٨.
ص: ٢٩٩
السنة الرابعة والستون يزيد بن معاوية
خذوا ما صفا من عيشنا قبل فوته … فكل وإن طال المدى يتصرم
ألا إن أهنا العيش ما سمحت به … صروف الليالي والحوادث نوم
ولا تتركوا يوم السرور إلى غد … فرب غد يأتي بما ليس نعلم (١)
وحكى البلاذري (٢) أن سبب وفاة يزيد أنه حمل قردة على أتان وهو سكران، ثم ركض خلفها، فسقط يزيد، فاندقت عنقه، أو سقط من جوفه شيء فمات. وقال الهيثم: ما هم يزيد بشيء من القبح إلا ارتكبه، ولم يحج في خلافته شغلا بما كان فيه من اللهو. ولما جهز يزيد مسلم بن عقبة لقتال أهل المدينة وابن الزبير؛ أعجبه ذلك الجيش، فكتب إلى ابن الزبير: ادعو إلهك في السماء فإنني … أدعو إليك رجال عك وأشعر كيف النجاة أبا خبيب منهم … فاحتل لنفسك قبل مأتى العسكر (٣) فكتب إليه ابن الزبير: أتستهزئ بإلهي الذي في السماء؟! وأنت يزيد القرود، ويزيد الصيود، ويزيد الخمور، ويزيد الفسوق .. وعدد أفعاله.
فكتب إليه يزيد وقال:
لقد عبت ما لا عيب فيه على الفتى … من الصيد واللذات والأكل والشرب
ولكنما العار الشنار الذي به … يعير خلق الله في الشرق والغرب
صيانة كف المرء عن بذل ماله … عن الطارق الملهوف والجار ذي الجنب
فسار يزيد إلى نخل (٤) ابن الزبير، ومات يزيد عقب وصول كتابه إلى ابن الزبير .
وكان يزيد قد عزم على الحج ويدخل اليمن، فقال رجل من تنوخ:
——————————————
(١) ينظر “فوات الوفيات” ٤/ ٣٣١، وفيه زيادة أبيات. وينظر أيضا “تمام المتون في شرح ابن زيدون” ص ٨٢.
(٢) في “أنساب الأشراف” ٤/ ٣١٨.
(٣) البيتان في “أنساب الأشراف” ٤/ ٣٦٠ و”مروج الذهب” ٥/ ١٦٢. وفي صدر البيت الأول نظر، ويستبعد أن يقوله يزيد، وقد نسب إليه ما لم يقله. قال البلاذري: والشاميون يقولون: إنما قال: اجمع رجال الأبطحين فإنني أدعو إليك الخ.
(٤) كذا في (خ)، وليس في هذا الموضع نسخة أخرى.
ص: ٣٠٠
يزيد صديق القرد مل جوارنا … فحن إلى أرض القرود يزيد
فتبا لمن أمسى [علينا] خليفة … صحابته الأدنون منه قرود (١)
وجلست ميسون يوما ترجل ابنها يزيد وهي يومئذ مطلقة من معاوية، ومعاوية وامرأته فاختة في موضع ينظران إليهما ولم يعلما. فلما فرغت من ترجيله قبلت ما بين عينيه. ومضى يزيد، فأتبعته فاختة بصرها وقالت: لعن الله سواد ساقي أمك. فقال معاوية: أما والله لقد تفرج وركاها عن خير ما انفرجت عليه وركاك. فقالت فاختة: لا والله، ولكنك تحب يزيد وتؤثره. فقال: سوف أبين لك. فدعا عبد الله -وهو ولد معاوية من فاختة وكان محمقا، وهو أكبر من يزيد- وقال له: يا بني، سلني. فقال: تشتري لي كلبا فارها وحمارا سابقا. فقال: أنت حمار، وأشتري لك حمارا! قم واخرج. ثم دعا يزيد وقال: سلني فقال: أسألك الخلافة بعدك، وأرجو أن أموت قبلك وتوليني الصائفة، وتأذن لي في الحج، وتزيد في عطاء أهل الشام عشرة دنانير لكل رجل، وتفرض لأيتام بني جمح وبني سهم وعدي. فقال: ما لك ولبني عدي؟ فقال: قد حالفوني. فقبل معاوية ما بين عينيه، وقال: قد فعلت (٢). وكان يزيد شاعرا فصيحا خطيبا، غزا القسطنطينية في حياة أبيه على جيش فيه كثير من الصحابة، وحج بالناس مرارا، ولكن ابتلاه الله في ولايته بالمفاسد؛ من قتل الحسين وأهل بيته، ووقعة الحرة، والتتبير والقتل، ورمي البيت الحرام بالمجانيق وتحريقه، ونحو ذلك. ولما توفي الحسن بن علي رضوان الله عليه قال معاوية لابنه يزيد: اذهب إلى ابن عباس فعزه. وكان ابن عباس بالشام، فجاء يزيد، فجلس بين يدي ابن عباس؛ فقال له ابن عباس: ارتفع. فقال: لا، هذا مجلس المعزي، لا مجلس المهني (٣).
————————————–
(١) أنساب الأشراف ٤/ ٣١٩. وأثبت منه ألفاظا لم تجود في (خ). (٢) الخبر في “تاريخ دمشق” ١٨/ ٣٩٢ و ٣٩٣ (مصورة دار البشير). وجمع فيه المصنف (أو المختصر) بين روايتين. (٣) المصدر السابق ١٨/ ٣٩٥.
كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان
[سبط ابن الجوزي] ج: 11 ص: ٤٨٩
السنة الثانية والثلاثون بعد المئة يزيد بن عمر بن هبيرة وقال زياد بن عبد الله (٤) الحارثي خال السفاح: وفدت على مروان في جماعة ليس فيهم يماني غيري، وكان يزيد بن هبيرة على شرطته وهو على بابه يسمع إنشاد الشعراء وخطب الخطباء في مدح مروان، ويبحث عن أنسابهم، فقلت: إن عرف نسبي زادني عنده شرا، فتأخرت، فلما لم يبق غيري قال في: انتسب.
فقلت: أنا من اليمن. فقال: من أيها؟ قلت: من مذحج. فقال: إنك لتطمح بنفسك، اختصر. فقلت: من بني الحارث بن كعب، فقال: يا أخا بني الحارث، إن الناس يزعمون أن أبا اليمن قرد، فما تقول؟ فقلت: الحجة ظاهرة، وكان متكئا فاستوى قاعدا وقال: وما حجتك؟ قلت: ينظر في كنية القرد، فإن كان يكنى بأبي اليمن؛ فهو أبو اليمن، وإن كان يكنى بأبي قيس؛ فهو ممن يكنى به. فوجم، وجعل اليمانية تعض على شفاهها، والقيسية تكاد تزدردني. ودخل بها الحاجب على مروان، وقام ابن هبيرة، فدخل عليه ثم خرج وقال: أين الحارثي؟ فقلت: ها أنا، فدخل بي على مروان وهو يضحك، فقال: إيه عنك وعن ابن هبيرة! وايم الله لقد حججته، أوليس يزيد بن معاوية يقول:
تمسك أبا قيس بفضل عنانها … فليس عليها إن هلكت ضمان
فلم أر قردا قبله سبقت به … جياد أمير المؤمنين أتان
—————————————-
(١) تحرفت اللفظة في (خ) و (د) إلى: ذهبا. والتصويب من “أنساب الأشراف” ٣/ ١٦٥.
(٢) البيتان بنحوهما للحمام الأزدي، وهما في “الحماصة البصرية” ٢/ ٥٣. وينظر “جمهرة الأمثال” للعسكري ١/ ١٦٠.
(٣) أنساب الأشراف ٣/ ١٦٩.
(٤) في “تاريخ دمشق” ٦/ ٤٧٨ (مصورة دار البشير): زياد بن عبيد الله بن عبد الله، فإن صح ما وقع في (خ) و (د)؛ فيكون قد نسب إلى جده.
